الاقتصاد الخليجي .. تكامل أم منافسة؟ (4)
عبد الهادي حبتور من جدة - حسن أبو عرفات من الدوحة
حذر اقتصاديون خليجيون في الحلقة الرابعة من ملف "الاقتصاد الخليجي تكامل أم تنافس"، من أن التكامل الاقتصادي المزمع تحقيقه بين دول مجلس التعاون الخليجي معرض لفقدان مضمونه في حال تأخره خمس سنوات قادمة، مؤكدين أن تأثيره سيطال الدول الخليجية ومجتمعاتها ورفاهية شعوبها.
كما لفت الاقتصاديون، إلى أن لكل دولة خليجية في الوقت الراهن (أجنده اقتصادية) خاصة بها بمعزل عن جيرانها، وهو ما يتناقض مع الخطط التكاملية التي وضعتها دول المجلس لاقتصادياتها بحيث تصبح قوة اقتصادية موحدة، مشيرين إلى أن البعض يعد التقارب الخليجي نوعاً من "الترف" في ظل الانفتاح والعولمة تتطلب تكتلات اقتصادية صلبة.
وشددوا على أن التكامل بشكل تام أمر يستحيل تحقيقه على أرض الواقع لتعارضه مع حرية الدول، ومبدأ حق كل دولة في بناء اقتصاد متوازن لها، في المقابل أكدوا أن كل دولة تستطيع أن تبرز وتحقق نجاحات في نشاطات معينة حسب الميزة التنافسية فيها.
وبيّن خبراء الاقتصاد، أن تكتل دول مجلس التعاون الخليجي مع بعضهم (اقتصادياً) وتحقيق الاتحاد النقدي بحيث يصبحوا منطقة عملة واحدة، فإن ذلك يحدث نوعاً من التركز الاستثماري الإيجابي في هذه الدول، مضيفين أن أبرز العوائق التي تواجه التكامل الاقتصادي الخليجي هو ضعف التنسيق بين دول المجلس، ولا سيما مؤسسات القطاع الخاص، إضافة إلى الضبابية وعدم وضوح الاستراتيجية للمستثمرين واختلاف الأنظمة الاقتصادية بين دول المجلس
بداية، تحدث الدكتور إحسان بوحليقة عضو المجلس الاستشاري الأعلى لدول مجلس التعاون الخليجي قائلا "لطالما برز التساؤل حول إمكانية تحقيق التقارب والتكامل الاقتصادي بين دول مجلس التعاون، ونرى ذلك على المستوى الرسمي ومن خلال اجتماعات اللجان المختلفة التي تسعى إلى إصدار التشريعات والأنظمة التي تحقق المواطنة الخليجية وتسهل انتقال السلع بين دول المجلس، لكننا حتى الآن لم نصل إلى المستوى الذي يجعلنا رقعة اقتصادية واحدة"، كما أكد أن دول المجلس كانت تسعى في البداية إلى إقامة مشاريع مشتركة ويكون هناك شراكة في التنمية فيما بينها قدر الإمكان، خصوصاً في مجال تنويع اقتصادياتها للحد من اعتمادها على النفط، لكننا اليوم نجد أن لكل دولة (أجندة اقتصادية) خاصة بها بمعزل عن جاراتها
غياب التنسيق
ولفت بوحليقة إلى أن هناك غيابا شبه تام في التنسيق بين فعاليات القطاع الخاص في دول مجلس التعاون، وقال "خذ مثلاً الاستثمار العقاري، هناك عديد من المشاريع المكررة التي تقدر تكلفتها بالمليارات، وهي إما سكنية أو ترفيهية وغيرها من المشاريع، وقد يرد بعضهم بأن ذلك من باب تعدد الخيارات، صحيح لكننا يجب أن نقف ونرى مدى ربحية هذه المشاريع وعدم تسببها في نكسة لقطاع العقارات في الأسواق الخليجية وهو بلا مواربة سيؤثر في قطاعات كثيرة أخرى"
ويضيف "نحن لا نطالب بتخطيط مركزي، وبأن يكون كل مشروع نسخة واحدة وعدم وجود تطوير عقاري، لكن من المهم أن يكون هناك تقارب أكبر بين القطاع الخاص، يبدو أن الجميع يعول على ما تبذله الحكومات فقط في هذا المجال". كما أشار إلى أن التنسيق بين فعاليات القطاع الخاص في دول المجلس أمر قابل للتحقق في عدد من الدول الخليجية الأكثر انفتاحاً مثل دبي والبحرين. وأردف "في أسواق مثل دبي والبحرين نجد أن هناك اعتمادا كبيرا على المستثمر من الدول الخليجية الأخرى، ويمكن تدعيم هذا الأمر، في ظل أبدى دول المجلس انفتاحاً أكبر للمستثمر المواطن من الدول الخليجية الأخرى، من يدري قد تكون هذه هي العقدة
الاقتصاد المتوازن
واستبعد عضو الهيئة الاستشارية للمجلس الأعلى لدول الخليج، نجاح فكرة أن تقوم كل دولة خليجية بالتركيز في نشاطها الاقتصادي على قطاع معين، فيما تركز دولة أخرى على نشاط مغاير، ويضيف "اقتصاديات دول المجلس نفطية وهي متشابهة تقريباً، كانت هناك وجهة نظر بأن تركز كل دولة وتمحور جهدها في تنويع اقتصادها في قطاع أو اثنين، لكن ذلك لم يحظ بتأييد عملي وبقي في الإطار النظري فقط، ومن وجهة نظري فإنه أمر يستحيل تحقيقه على أرض الواقع لأنه يحد من حرية الدولة وحقها في العمل على توازن اقتصادها"
ويصرّ بوحليقة على أن تحقيق التكامل الاقتصادي لن يتأتى إلا من خلال الوفاء بالالتزامات التي وضعتها دول المجلس على نفسها وتحقيق الجدول الزمني المعد لهذا الغرض في وقته. ويستطرد "إن لم تكن هناك رغبات جادة من دول المجلس، وفي ظل حماس دولة أو اثنتين وتقاعس الآخرين لن يتحقق شيئ، كما أنه في حال استمرار النقاش على المستوى الرسمي فقط وعدم تفاعل مؤسسات القطاع الخاص فإن المسألة قد تطول"
وتابع "رغم وجود أجندة بحدود زمنية معينة أن أنها تعاني على الدوام التأخير والتأجيل، فالعملة الخليجية الموحدة المقرر لها 2010 تعد الآن في مهب الريح، للأسف قضايانا في دول الخليج (تموت صبراً)، الأمر الآخر أن قرارات بمفردها لن تحقق شيئاً ما لم تصدر بمعيتها آليات للتنفيذ تكون ملزمة للجميع". كما استغرب من اعتبار البعض لأهمية التقارب بين دول المجلس بأنه نوع من (الترف). ويقول "في ظل الانفتاح والعولمة والتجاذبات الإقليمية والدولية تتجلى أهمية التكامل الاقتصادي لدول الخليج وأن تعمل سوياً، فهذه الدول أعلنت عن رغبتها في هذا التقارب منذ 25 عاماً والمطلوب اليوم إنجاز هذا الأمر فقط
التأخير يفقد التكامل المضمون
وحذر بوحليقة من أن تأخر تحقيق التكامل الاقتصادي والتقارب بين دول الخليج لخمس سنوات قادمة سيفقده المضمون ويجعله خاليا من أي فائدة ترجى منه. ويبيّن "معظم الدول اليوم تسعى إلى أن تكون أكثر انفتاحاً وشفافية وتسعى إلى استقطاب الاستثمارات الأجنبية ومعاملتها كـ (مواطنة)، بمعنى آخر أن الوقت ليس في مصلحة الدول الخليجية وتأخر التكامل سيجعل منه تحصيل حاصل، ولذلك على هذه الدول أن تتدارك أمرها وتسارع في تحويل الأقوال إلى أفعال
الاقتصاد الخليجي تنافسي
في غضون ذلك، يرى الدكتور ياسين جفري الخبير الاقتصادي وعميد كلية الأمير سلطان للسياحة، أن الاقتصاد الخليجي تنافسي أكثر منه تكاملي، ويصرح "أنت تنتج نفس المنتجات ولديك نفس السوق فمن المستحيل تحقيق التكامل في حالة كهذه، الاقتصاد التكاملي لا نجده إلا داخل الدولة الواحدة للتقليل من المنافسة السلبية فقط"
ويقول الجفري إن التكامل أحياناً ربما يؤدي إلى الاحتكار في تطبيقه، وقال "من الممكن أن يحدث تكامل اقتصادي بين دول الخليج، لكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال منع أحد من ممارسة النشاط الاقتصادي، فإذا ما نظرنا إلى البحرين كمركز مالي سنجد أن دبي سبقتها بمراحل في هذا المجال، كل دولة تبحث عن مصلحتها والمنافسة أمر طيب، لكن التكامل قد يؤدي بنا إلى الاحتكار في بعض الأحيان
تركز الاستثمارات والتنافسية
من جانبه، أوضح الدكتور رجا المرزوقي الخبير الاقتصادي والأستاذ في المعهد الدبلوماسي في الرياض أنه في حال تكتل الدول الخليجية اقتصادياً، سيؤدي ذلك إلى تركز الاستثمارات في هذه الدول. ويفنّد ذلك قائلاً "الدول الخليجية ما زالت نامية وتقوم ببناء هياكلها الاقتصادية، فهي في الوقت الحالي معتمدة على النفط بالدرجة الأولى، فيما بعضها يعتمد على البتروكيماويات، إضافة إلى قيام بعض الأسواق الناشئة مثل دبي وقطر والبحرين، وفي تصوري أن هذه الدول في حال تكتلها اقتصادياً واستطاعت تحقيق الاتحاد النقدي بحيث أصبحت منطقة عملة موحدة، فإن الدراسات التطبيقية والنظرية تؤكد أن نوعاً من التركز الاستثماري يحدث في هذه الدول"
ويواصل المرزوقي "فيما يخص التنافسية بين هذه الدول لن تكون ضارة لأي منها، فالتركز الاستثماري الذي يحدث في منطقة العملة الواحدة عادة يكون حسب الميزة التنافسية فيها باعتبار هذه المناطق دولة واحدة
المنطقة واعدة بالفرص
وأشار الخبير الاقتصادي إلى أن منطقة الخليج ما زالت مليئة بالفرص الاستثمارية الضخمة لإحلالها من قبل المستثمرين من الداخل. وقال "عندما نقارن اليوم وضع القطاع الصناعي والخدماتي في دول الخليج في ظل اعتمادها على النفط، نجد أن الصناعة ما زالت لم تلب كل متطلبات المنطقة، وهناك فرص استثمارية كبيرة جداً يمكن أن يحصل عليها المستثمرون من الداخل لوجود صناعات داخلية وخدماتية يمكن تلبيتها عوضاً عن استيرادها من الخارج"
وأعاد المرزوقي التأكيد على أن من أبرز العوائق أمام التكامل الاقتصادي الخليجي هو ضعف التنسيق بين دول المجلس، إضافة إلى عدم وضوح الاستراتيجية للمستثمرين واختلاف الأنظمة الاقتصادية في دول المجلس، لافتاً إلى أن هذه النقطة قد تضر مستقبلاً، حيث إن كل دولة ربما تقدم تنازلات أكبر للمستثمرين على حساب مصالح البلد لاستقطاب أكبر عدد منهم
تنافسية لا تكاملية
من جهته، أكد الشيخ خليفة بن جاسم بن محمد آل ثاني رئيس مجلس إدارة غرفة تجارة وصناعة قطر، أن الاقتصاديات الخليجية بطبيعة تركيبتها الإنتاجية هي اقتصاديات تنافسية لا تكاملية، وذلك راجع إلى تشابه الموارد الطبيعية، وأن معظم دول مجلس التعاون تعتمد في إنتاجها على النفط والغاز، لذلك يكون التشابه في الإنتاج حتمياً، إضافة إلى أن المناخ الاقتصادي في دول المجلس يكاد يكون متشابهاً من حيث حجم السوق وندرة الموارد البشرية والطبيعية، والاعتماد على الواردات، كل هذه العناصر تخلق اقتصاديات متشابهة ودائما ما يكون التنافس واردا في هذه الاقتصاديات التي لا يتوافر فيها التنوع السلعي
وأضاف "حتى يتحقق التكامل الاقتصادي في التصنيع بين دول المجلس، يجب أن يكون هذا في إطار اتفاقيات مشتركة بين دول المجلس بحيث تتاح للدولة التي تتمتع بمزايا نسبية لإنتاج سلعة ما الفرصة الكاملة لتغطية احتياجات دول المجلس على الأقل، وبذلك يتحقق ما يسمى بالتكامل الإنتاجي، الذي يحتاج إلى قرارات سياسية وإرادة اقتصادية وأيضاً إلى وعي باحتياجات وضروريات المرحلة
السوق الخليجية
وحول إمكانية أن تحقق السوق الخليجية المشتركة تكاملاً اقتصادياً حقيقيا، أوضح رئيس غرفة تجارة قطر أن السوق الخليجية المشتركة تهدف إلى زيادة التجارة البينية بين دول المجلس وتعزيز الاستثمارات في المجالات المختلفة، معتمدة على بعض القوانين والتشريعات التي تصدرها دول المجلس كافة لتحقيق سهولة تدفق وانسيابية تنقل رؤوس الأموال والأفراد بين الدول الست، مع إزالة الحواجز الجمركية والإدارية والتشريعية كافة.
وأضاف "هذه الأهداف هي التي تحقق النتائج المرجوة وتحقق التكامل الذي يأتي من حرية كل مواطن خليجي في إقامة مشروعه في أي دولة من دول المجلس، ولكن الواقع الحقيقي الذي نلمسه ويلمسه جميع رجال الأعمال في دول المجلس الذي لم يخفيه الأمين العام لمجلس التعاون خلال الندوة التي نظمتها غرفة تجارة وصناعة قطر حول السوق الخليجية المشتركة، أن هناك بعض دول المجلس ما زالت إجراءات ممارسة النشاط الاقتصادي بها مقيدة وغير قادرة على مواكبة متطلبات السوق الخليجية المشتركة وهذه مشكلة حقيقية يجب التنبه إليها".
الاكتفاء الذاتي
وعن إمكانية إيجاد آلية للاكتفاء الذاتي بعيداً عن الاعتماد على الآخر على أقل تقدير في بعض الصناعات التي تتناسب مع بيئة كل دولة، قال آل ثاني إن تحقيق الاكتفاء الذاتي في بعض السلع أمر صعب وذلك لطبيعية الاقتصاد الخليجي، فهو اقتصاد يعتمد بنسبة 70 في المائة تقريبا على النفط في صادراته وصناعاته. كما أن التربة الخليجية غير مؤهلة لتحقيق الاكتفاء الغذائي، إضافة إلى ذلك عدم توافر التقنية والتكنولوجيا المتقدمة. وأضاف: هذه العوامل المجتمعة تجعل تحقيق الاكتفاء الذاتي أمرا صعبا، ولكن يجب أن نمتلك قدرا أكبر من التفاؤل ونعمل على تحقيق قدر أكبر من تقليل الاعتماد على الواردات لتحقيق احتياجاتنا الأساسية، التي يمكن أن تتحقق من خلال الصناعات الصغيرة والمتوسطة
وفي سؤال حول الاستثمارات الخليجية البينية وهل نمت أم أنها لا تزال دون الطموحات في ضوء التشريعات الخليجية التي تشجعها على الاستثمار المحلي؟ أوضح آل ثاني أن العائد الاقتصادي الذي بدأ يتحقق للمستثمرين داخل دول المجلس أصبح دون أدنى شك عائدا مجزياً ومغريا للغاية، وأصبح الاقتصاد الخليجي بشكل عام من الاقتصاديات الجاذبة للاستثمارات الأجنبية بدليل أن دولة قطر وفق ما يتوافر من معلومات استطاعت أن تجذب استثمارات أجنبية تصل إلى نحو 120 مليار دولار، الأمر الذي يشجع المستثمر الخليجي على الاستثمار في وطنه
وقال: هذا لا يمنع أن نقر بأن الاستثمارات الخليجية الخارجية تصل إلى نحو 1000 مليار دولار، معظمها في مجال المشاريع العقارية وشراء الأسهم في مؤسسات صناعية دولية ضخمة. وأضاف: وفقاً لتوقعات صندوق النقد الدولي بارتفاع واردات دول الخليج من الموارد النفطية في عام 2008 إلى 883 مليار دولار، فإن دول المجلس ستتوافر لديها ثروة هائلة يمكن توجيهها لتطوير القطاعات الاقتصادية الأخرى، منها قطاع الصناعة والثروة الحيوانية والزراعية لتحقيق ما نسميه بالأمن الغذائي.
الآليات التشريعية والتنفيذية
في المقابل، يرى سعود الجفيري مدير إدارة الشؤون الاقتصادية في وزارة الأعمال والاقتصاد القطرية تطبيق التكامل بين الاقتصادات الخليجية في الإنتاج والتصنيع على أرض الواقع قريبا. وقال: "فإذا نظرنا إلى الاتفاقية الاقتصادية التي سميت بالموحدة وتم تطويرها إلى اتفاقية اقتصادية.. وقرأت بنودها تجدها اتفاقية شاملة. وجميع دول التعاون صادقت عليها بحيث يكون هناك تكامل اقتصادي فعلي في قطاعات الصناعة والإنتاج والمساعدات الخارجية، ولكن على أرض الواقع هناك كثير من العثرات لأن عددا من الدول لم تصدر حتى الآن الآليات التشريعية والتنفيذية لتفعيل تلك القرارات على الأرض وهي حبيسة الأدراج.. لذا لا بد من وجود آليات للتطبيق من خلال اللجان المتخصصة والوزارية المختلفة التجارية والمالية والصناعية.. حيث إن هذه اللجان العليا الوزارية كان ينبغي أن يكون لها دور كبير في تحريك تلك القرارات بين دول التعاون حتى يمكن تطبيق برامج تخصصية في الإنتاج والسلع بين الدول. وتابع "كنا نسمع في السابق أن البحرين كانت من أوائل الدول التي تملك قاعدة صناعية في إنتاج الألمنيوم التي انتقلت إلى دول التعاون كافة قطر والإمارات والسعودية والكويت، كما نجد أن قطاع البتروكيماويات تركزت صناعته في السعودية وقطر وانتقلت حاليا إلى خمس دول خليجية". مؤكدا في هذا الصدد أن التكامل على أرض الواقع غير مفعل، متأملا في ظل السوق الخليجية المشتركة أن يتم رسم وتطوير السياسات التكاملية
المبادرات لم تفعل
وحول اعتماد الاقتصادات الخليجية في تجارتها الخارجية على الاستيراد من الخارج وإمكانية الوصول إلى الاكتفاء الذاتي في بعض الصناعات التي تتناسب مع بيئة كل دولة، قال الجفيري "إن هناك مبادرات كانت في السابق في هذا الاتجاه خاصة في مجال الأمن الغذائي من خلال إنشاء الهيئة العربية للاستثمار والإنماء الزراعي وإنشاء المنظمة العربية للتنمية الزراعية ومقرهما الخرطوم ضمن الجهد العربي لتحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي بالدرجة الأولى .. ونحن نسمع منذ نعومة أظفارنا مقولة السودان سلة غذاء العالم، لكن على أرض الواقع فإن الحصيلة متواضعة حيث كانت الاستثمارات العربية نحو السودان مترددة وقلقة بسبب الظروف السياسية التي مر بها". وأضاف "ولكننا نشهد حاليا حراكا استثماريا كبيرا نحو السودان وبلدان عربية أخرى بسبب الأزمة العالمية للغذاء واتجاه الدول الكبرى نحو الوقود الحيوي على حساب المساحات الزراعية والصدمات دائما تجعل الإنسان يفتح عقله أكثر، حيث لجأت قطر إلى تطوير استثماراتها الزراعية على سبيل المثال في حقول الأرز الفيتنامية القائمة، كما شرعت في الاستثمار في السودان مثل السعودية والإمارات والكويت". متأملا في هذا السياق ألا تكون هناك ازدواجية في الإنتاج بين دول الخليج والتركيز على التخصصية حتى خارج حدودها
العائد في السوق المحلية
وفي تعقيبه على مسألة توطين الاستثمارات الخليجية في دول المنطقة بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) وما مدى إمكانية تطورها ونموها في أوطانها، يقول الجفيرى: دول مجلس التعاون فهمت واستوعبت "الطبخة" حيث إن رجل الأعمال الخليجي يفضل الاستثمار في بلده لأن العائد في السوق المحلية أفضل كثيرا من الخارج لأن رأسماله قريب منه والمخاطر أقل، إضافة إلى عدم وجود ضرائب كما هو في الخارج.. كما أن هناك حراكا للاستثمارات الخليجية وهي ظاهرة صحية. وقدر الجفيري حجم الاستثمارات الخليجية في الخارج بنحو تريليون دولار، ويرى أن هناك فرصا كبيرة أمام رأس المال الخليجي في قطاعات الصناعات الصغيرة والمتوسطة. وقال "إنني أعتبرها المحرك الأساسي لاقتصادات المنطقة باعتبارها حجر الأساس لتوطين الصناعة.. إن قواعد المنشأ بين دول العالم قائمة في الأساس على الصناعات الصغيرة والمتوسطة لأنها تحدد إطار القيمة المضافة ومدخلات الإنتاج".
قطار العولمة والاستثمارات
ويرى مدير إدارة الشؤون الاقتصادية في وزارة الأعمال والاقتصاد القطرية، أن دول التعاون تنافس بعضها بعضا في إصدار قوانين وتشريعات لاستقطاب الاستثمارات ورؤوس الأموال، فيجب أن يكون هناك وعي في هذا الأمر لأن المستثمر الخليجي عندما يتحرك باستثماراته خارجيا يفرض عليه عديدا من الضرائب والقوانين والتشريعات المقيدة، لذا لا بد من استخدام سلاح المعاملة بالمثل. وقال "نحن نقدم له البيئة الاستثمارية والتسهيلات المناسبة، ولكن عليه أن يتحمل الضرائب على استثماراته ضمن بيئة استثمارية مرنة". ويضيف إن كثيرا من القوانين والتشريعات الخليجية هي الآن في طور التطوير والتحديث.. فعلى سبيل المثال فقد أصدرت قطر عديدا من التشريعات الجديدة المحفزة للمستثمرين وأصبحت الآن لدينا نحو أكثر من 18 منطقة يمكن الاستثمار فيها والتملك، والإمارات أيضا جعلت كل مناطقها استثمارية، كما تم إنشاء وزارة للأعمال لدعم جهود القطاع الخاص للاضطلاع بدوره ويكون قادرا على قيادة الأنشطة الاقتصادية والاستثمارية. ويواكب التطور الحاصل حاليا محليا وخارجيا ودعم جهود الدولة في الانفتاح على الاستثمارات الخارجية التي لا تعرف الحدود وتتحرك أينما وجدت التسهيلات والمزايا والأمان والاستقرار، لأن العالم أصبح قرية صغيرة ضمن قطار العولمة الذي يتحرك بقوة
التشريعات جيدة.. ولكن
من جانبه، قال رجل الأعمال والعضو السابق في غرفة تجارة وصناعة قطر علي حسن الخلف تعليقا على آلية التكامل الممكنة في الإنتاج والتصنيع والتخصص في سلعة معينة، "إذا ما نظرنا إلى الظروف الاقتصادية لكل دولة خليجية نجدها دولا متشابهة في الإنتاج المعتمد على إيرادات تصدير النفط ومشتقاته، وما أقر بين دول المجلس في التخصصية كان المقصود به التخصصية في الصناعات الاستراتيجية الثقيلة وليس الصناعات الصغيرة والمتوسطة التي يملكها القطاع الخاص بإمكاناته المحدودة.. ومن الصعب الاتجاه نحو التخصصية في تلك الصناعات الاستراتيجية لأنها موجهة لتغطية احتياجات الأسواق العالمية التي يتصاعد فيها الطلب على تلك المنتجات، وخاصة في ظل المتغيرات والظروف السياسية والطبيعية والأمنية". وأضاف "لا تزال تلك المنتجات رغم تشابهها في دول الخليج لا تغطي الطلب العالمي المتنامي.. إذن هناك أسواق مضمونة لتلك السلع.. فالقطاع الخاص السعودي بإمكاناته الكبيرة يستطيع تلبية السوق المحلية والتصدير إلى الأسواق العربية والعالمية من خلال قوة تلك المنتجات من ناحيتي الجودة والأسعار وقدرتها على منافسة الأسواق التقليدية مثل السوق المصرية، إلى جانب التزام تلك المنتجات بالمواصفات العالمية عبر شراكات مع الشركات العالمية ذات العلامات التجارية المعروفة"
نحتاج إلى مزيد من الجهد والحركة
وعن دور السوق الخليجية المشتركة في تحقيق التكامل الاقتصادي الحقيقي في الفترة القادمة، شكك الخلف في قدرة تحقيق تكامل حقيقي عبر السوق المشترك. وقال: "البنيان دوما يحتاج هياكل وأعمدة حتى يتشكل شكله.. هناك مراحل وخطوات أساسية كان ينبغي أن تبرز على السطح وتقر على أرض الواقع.. وتساءل كيف يمكننا تحقيق السوق المشتركة قبل قيام الاتحاد الجمركي وقبل قيام منطقة التجارة الحرة.. وللأسف تطبيق تلك الأدوات تتم حاليا بطريقة غير متكاملة، حتى ملامحها لم تبرز بعد وهي غير واضحة.. ومن الظلم أن نقارن دول مجلس التعاون بالاتحاد الأوروبي لأنها دول متطورة وتحسب خطواتها بدقة وتهيئ مواطنيها وأجهزتها لتلك المسؤوليات وتوفر لها الإمكانات قبل اتخاذ أية خطوات نحو الوحدة.. عبر خطط واستراتيجيات مدروسة، إضافة إلى أننا نعيش في محيط يختلف عن الاتحاد الأوروبي، نحن نعيش في محيط عربي وإسلامي له تأثير فينا وأعتقد أن المسالة تحتاج لمزيد من الجهود والدراسات في اتجاهات عدة وتقييم العوائد المتحققة على المدى البعيد والمتوسط، كما تحتاج إلى مزيد من التضحيات للعمل المشترك وليس القطري الذي يحقق عوائد للمنطقة.
ويقول الخلف إن أسواقنا صغيرة ومتواضعة ومفتوحة ويمكن للقطاع الخاص التخصص كل في مجاله لتوفير احتياجات الأسواق في المنطقة. ويضيف "إن اهتمامات رجال الأعمال تتحرك الآن نحو سوق الأسهم رغم تقلباته العنيفة ونسوا القطاعات الأخرى ربما لأن عائدها لم يكن مقنعا لهم وبعضهم اتجه نحو العقار.. أعتقد أن التخصصية غير متوافرة حاليا في التجارة البينية ويجب علينا الاهتمام في عمقنا العربي.. والسوق العربية لم تبرز معالمها وأطرها حتى الآن ولا تزال تعتمد على أسواق أخرى رغم ضخامتها.. إذن كيف يكون الحال بالنسبة لأسواقنا الخليجية الصغيرة رغم توافر الإمكانيات المادية وارتفاع حجم السكان والطلب على العمالة". وتابع "أعتقد أن وجود علاقات تاريخية وتداخل بين دول الاتحاد الأوروبي أسهمت في تنظيم عملية التبادل التجاري وخلقت علاقات مستقرة لها آليات عمل واضحة ما سهل على دول الخليج بناء شراكة تجارية معها بسهولة لدرجة أن بعض السلع العربية التي تأتي إلى منطقتنا تمر عبر نوافذ أوروبية من خلال إعادة التصدير".
العوائد والاستقرار
ويؤكد الخلف أن الاستثمارات الخليجية ضخمة للغاية وتحوم بحثا عن العوائد المجزية والمكان الآمن والمستقر، فبعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) عادت شريحة من تلك الاستثمارات إلى موطنها مما أسهم في زيادة الدخل في المنطقة. وتابع: إن الظروف الدولية تسهم أيضا في حركة الرساميل من منطقة إلى أخرى وأعتقد أن الاستثمارات الخليجية تنتقل من مكان إلى آخر بحثا عن العوائد المالية السريعة والآمنة. كما توقع أن تستفيد بعض القطاعات مثل التجاري أو الصناعي أو الخدمي من الأموال التي عادت إليها بعد تركزها القوى في القطاع العقاري الذي يتوقع أن يشهد استقرارا في الفترة القادمة، مشددا على أن الأسواق تحتاج إلى التخصصية والمهنية العالية والمنافسة.
وحول التشريعات والقوانين الخليجية ومدى جاذبيتها للمستثمرين في المنطقة، يرى الخلف أن هناك تشريعات جيدة وتحاول المؤسسات والأجهزة الخليجية تطوير وتحديث تلك التشريعات لاستقطاب الأموال والاستثمارات، ولكن رغم كل تلك الجهود، إلا أن بعضها لا يزال قاصرا، فبعض الدول تصدر التشريعات دون إصدار اللوائح التنفيذية المنظمة لها، في الوقت نفسه فإن الأجهزة المعنية تحتاج إلى استيعاب وتخصصية أكبر لضمان تنفيذ تلك التشريعات وتطبيقها على أرض الواقع حتى يستوعبها المواطن العادي وصاحب المصلحة ليعرف كل طرف حقوقه ووجباته، كما ينبغي إخضاع تلك التشريعات لمناقشات عامة ومتخصصة من قبل الأجهزة لمعرفة الإيجابيات والسلبيات ويسلط الضوء عليها من قبل وسائل الإعلام كافة، إضافة إلى تأهيل الأجهزة الموكل إليها عمليات التطبيق على الأرض
هيكل التجارة الخارجية
من جانبه، يرى الخبير الاقتصادي الدكتور عاصم شله أن التكامل الاقتصادي بصفة عامة يمثل السبيل الأساسي لمواجهة التحديات التي تفرضها التغيرات الاقتصادية العالمية، وذلك نظراً للإيجابيات التي يتمتع بها هذا التكامل من حيث توسيع دائرة السوق أمام المنتجات والرساميل، إلى جانب أنه يتيح فرص جديدة للعمل، إضافة إلى استفادة المنتجين من المزايا النسبية التي يوفرها التكامل الاقتصادي بين الدول. إلا أن المنتجات الداخلة في التجارة بين دول المجلس ذات طبيعة متشابهة وهذا يؤدي إلى ارتفاع مستوى المنتجات الأجنبية المستوردة في هيكل التجارة الخارجية لهذه الدول
وقال إن تنمية التبادل التجاري بين دول الخليج خطوة مهمة إذا ما أرادت هذه الدول أن تدخل عصر العولمة الاقتصادية بما يتيحه من فرص وبما يفرضه من تحديات جديدة، وإذا كانت محدودية التجارة البينية ترجع في أحد أهم عواملها إلى ضيق القاعدة الإنتاجية وعدم تنوعها، فإن تنمية هذه التجارة تتطلب بداية أن تعمل دول الخليج على إعادة تخصيص الموارد الاقتصادية غير النفطية فيما بينها وتنويع اقتصادياتها بأن تتخصص كل منها في إنتاج السلع والخدمات التي تتمتع فيها بميزة نسبية.
وأضاف: "في اعتقادي أن العمل على تنويع المنتجات والاستفادة من المزايا النسبية لبعض المنتجات المتوافرة لهذه الدول، والتي تشكل العمود الفقري لمنتجات التقنية الحديثة، يساعد على إيجاد منتجات جديدة تلبي احتياجات المستهلكين في أسواق هذه الدول، ويعزز من التكامل الاقتصادي فيما بينها"
المشروع السياسي والتكامل
وحول إمكانية أن تحقق السوق الخليجية المشتركة تكاملا اقتصاديا حقيقيا، يقول شله: إن التكامل الاقتصادي سواء الخليجي أو غيره هو أساسا جزء من مشروع سياسي ويصعب النظر إليه بشكل معزول، وفي بعض الحالات نجد أن التكامل الاقتصادي لا يتحقق حتى لو كانت كل مقوماته متاحة في حالة عدم وجود مشروع سياسي من خلفه، كما أن المشروع السياسي من شأنه أن يذلل عقبات كبيرة من مسار التكامل الاقتصادي
فكما هو متعارف عليه أن أي نوع من المعوقات سواء الكمية أو الإدارية أمام حركة التجار يقلل من مستوى التبادل التجاري، وذلك باعتبار أن العوائق الكمية المتمثلة في الرسوم التميزية تزيد من تكلفة البضائع ومن ثم ارتفاع أسعارها ومن ثم تحد من قدرتها التنافسية في السوق، الأمر الذي يقلل من حجم ومستوى تدفق الواردات البينية بين الدول الأعضاء بالتكتل الاقتصادي، أما بالنسبة للعوائق الإدارية فإنها تقلل من وصول السلع إلى أسواق المستهدفة، كما قد تؤدي إلى تحمل تكاليف إضافية لاستيفاء بعض المتطلبات الإدارية، مثال: رسوم الاستعانة بخبراء الفحص لاستيفاء المواصفات القياسية. لذلك فإن إزالة هذه المعوقات تساعد المنتجين على التنافس لتنويع منتجاتهم وتقديم منتجات جديدة تستفيد من المزايا النسبية التي يحققها خفض تكاليف الإنتاج والتسويق، وبما يسهم في زيادة مستوى التدفق السلعي داخل دول المجلس، وخاصة في ظل بروز صناعات تقنية متطورة يتوافر لدول المجلس الميزة النسبية في إنتاجها، وذلك باعتبار أن البتروكيماويات تمثل المدخل الأساسي لكثير من منتجات هذه التقنية.
النفط وعمليات الاستحواذ
وحول إمكانية عودة الاستثمارات الخليجية إلى أوطانها وقضية الأموال المهاجرة وكيفية استقطابها داخليا، قال دكتور شله إنه خلال الفترة من 2002 إلى 2006 حصلت دول مجلس التعاون على ما بين 1200 و1500 مليار دولار من العائدات، ما رفع أرصدتها في الخارج إلى أكثر من ألف مليار دولار، بحسب تقديرات دولية، وأضاف إن ارتفاع سعر النفط زاد كثيرا من وزن دول مجلس التعاون الخليجي في الاقتصاد العالمي لتنل مكانة مهمة
واستطرد قائلا: إن أهمية دول مجلس التعاون لم تعد محدودة بالثروة النفطية، بل تضاعف تأثيرها من خلال استثمارات أجنبية كثيفة وعمليات استحواذ واسعة النطاق في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا. وتحت تأثير أسعار النفط ارتفع الناتج الإجمالي للدول الست بنحو 7 في المائة في السنوات الأخيرة من 406 مليارات دولار عام 2003 إلى 712 مليار دولار عام 2006، وبحسب توقعات صندوق النقد الدولي أن يبلغ 790 مليار دولار عام 2007 و883 مليار دولار عام 2008، ولا يمكن للمنطقة استيعاب هذه السيولة، لذلك اتجهت هذه الدول إلى عمليات استحواذ ضخمة لشركات وحصص في شركات في الخارج
فرص استثمارية جاذبة
وحول القطاعات والفرص المتاحة أمام رأس المال الخليجي للاستثمار داخل دول المجلس بدلا من الخارج، يقول شله هناك فرص استثمارية ممتازة وجاذبة في أسواق المنطقة في مجالات مختلفة وخاصة في قطاع الخدمات والسياحة، وهناك مثلا في السوق القطرية استجابة قوية من المستثمرين نظرا للحوافز الاستثمارية التي توفرها قطر وهي سوق واعدة فيها العديد من الفرص، حيث شهد الاقتصاد القطري ومنذ سنوات ازدهاراً مستمراً ونمواً هائلا في جميع القطاعات، ولا سيما قطاع البنوك الممول الرئيسي للقطاعات الأخرى، كما يشهد معدلات نمو عالية تفوق ما حققه معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في ظل عديد من المشاريع الواعدة التي يشهدها الاقتصاد القطري تأسيسا على المؤشرات القوية للأداء الاقتصادي، إضافة إلى الدور الفاعل والمتنامي لمركز قطر المالي في جذب الشركات الإقليمية والعالمية لسوق قطر الواعدة، فبوجود مشرع متخصص مثل مركز قطر المالي بجانب البنك المركزي القطري أصبحت قطر من أكثر الأسواق الخليجية جذبا لشركات الاستثمار، وبالنظر إلى كيفية صياغة قوانين الاستثمار نجد أن مركز قطر المالي يتبع معايير عالمية حديثة ومتطورة ما يوفر ملاءة مثالية لإقامة شركات استثمار في قطر قادرة على التوسع الإقليمي والمنافسة العالمية.